ولقد عرف مصطلح الرجعية تسلسلا في تعريفه في ا لعصر الحديث واقعيا، ففي الوقت الذي كان فيه الأصوليون والمقاومون للإستعمار المباشر يفخرون بلقب « رجعيين » بمعنى « أصوليين » فقد صار اليوم هذا اللقب صفة قدح من التقدمية للأصولية ، وهاهنا بدى الإلتباس الواضح في هاته المفاهيم :
فالأصولية الحقة يمكن أن نقول بأن لها مرجعية بالماضي ،كما للتقدمية نفسها التي انبنت كل حضارتها الحالية على ما سلف من الحضارات،لكن هاته الأصولية ليست رجعية بالمفهوم الذي نعني به مضادتها للتقدمية،فللأصولية مرجعية قرآنية نبوية ثم فقهية ثم فكرية حضارية، وهاته المرجعية نفسها كانت سببا في تطور العالم كله، ولبنة وسطية بين الحضارات القديمة وحضارة ما بعد العصر الوسيط..ولهذا ننفي على الأصولية الحقة نعوت الرجعية التي يريد إلصاقها بنا أعداء الإسلام ،وكذا العديد من القارئين والباحثين في التجربة الأصولية الذين لايفرقون بين مظهر بعض الجماعات القليلة »التي يحق نعتهم بهذا » لقصور ثقافاتهم ووعيهم بالدين والإسلام الحضاري تاريخا وفكرا، وبين الأصولية الإسلامية المتبنية للمرجعية الإسلامية بفهم صحيح وفقه كامل..
فالأصولية الإسلامية وإن كانت تتصلب ضد كل المظاهر الخليعة للعصر والتي يراها التقدميون جوهرا وشعارا للتحرر من الماضي كسفور النساء والإلحاد والعلمانية وكل مظاهر فسادها، فإنها لاترفض التقدمية بارتباطها بمفاهيم التطور، لأن الإسلام نفسه يتطور انطلاقامن ثوابته، والقرآن نفسه عبر إشكالية الناسخ والمنسوخ يقر بالتدرج والتطور في الإصلاح، وكذا المقارنة بين القرآن المكي والقرآن المدني تعطي حتما كل الدلائل على ارتباط الإسلام بالواقع ارتباطا وثيقا وما دام الواقع يتغير فالإسلام دوما له اجتهاداته الظرفية حتى أن الإجتهادات كلها بما في ذلك اجتهادات الأئمة الأربعة ليست بالمطلقة بما في ذلك الإجتهادات المتفقة عليها كل المذاهب فالعصمة الكاملة للآيات أولا ثم للأحاديث التي صحت فقها وفكرا..وما دونهما من إجما ع وقياس تعد اجتهادات ثابتة لكنها غير معصومة..والفتوى نفسها تتغير حسب الزمان والمكان والعرف والظرف ..مما يضفي على الإسلام دوما صفته التجديدية انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم : » إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها » والتجديد نعت كبير من نعوت التقدمية، مما ينفي كل الصفات الرجعية عنه سواء من أعدائه أو من إخواننا الذين لهم مرجعية سلفية غير كاملة ولا يقرون إلا بابن تيمية أو غيره من المصلحين ضاربين عرض الحائط كل المدارس الإصلاحية الأخرى لحد احتقار علماء الخلف والمعاصرين من مجددينا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : »كفى بالمرء إثما أن يحقر أخاه المسلم ».
فالإسلام يقر إذن باجتهادات السلف والخلف وبفكر الماضي وتجديد الحاضر نحو الإستعداد للمستقبل بكل مرونة وتطور، لكن مع التصلب على الثوابت،وهاته قوة إخواننا السلفيين، فالشريعة في حلالها وحرامها ثابتة ، ولا يمكن بتاتا اليوم تحليل ما حرم بالأمس ولا تحريم ما كان حلالا سالفا..وهاته هي النقطة التي تضفي على بعض إخواننا سمة الرجعية البريئة لإخلاصهم في الإنضباط على الشريعة، مما يجعلهم يفرون من كل مفاسد الحاضر لحد سخطهم على كل الواقع ونبذهم بالتالي لكل مظاهر هاته الحضارة التي جعلت الإنسانية تنزل إلى هذا الحضيض، فللرجعيين منا إذن حججهم المبدئية وإن كان الإسلام ينبذ التقوقع والتقليد الأعمى، ولهذا فإن تربية هؤلاء مفيدة للعديد من إخواننا المسلمين ، لكنهم لايملكون بديلا حضاريا،وأيضا لايدعون ذلك ، ولا يجب أن نتموقف ضدهم ، رغم أن تصلبهم الكبير على دقائق الشريعة : »جعلهم يتموقفون من كل من ليس له مظهر سني :في اللباس واسترسال اللحى ... » وهؤلاء يجب على المفكرين وكل المصلحين الحكمة في تفتيحهم وتوعيتهم بالفكر الإسلامي ،لأنهم عادة لايقرأون إلا الفقهيات ..والفكر السالف بغموض واضح على كل علوم العصر ، ويجب أن تدرس مدرستهم السلفية بدقة متناهية حتى نفهمهم أولا قبل أن نطالبهم بفهمنا.فهم رجعيون فقهاوهذا حق لاينكره منصف ولكنهم وللأسف غير متضلعين فكرا، ولهم حسناتهم الكبيرة في الإنضباط على الشريعة واهتمامهم الكبير بالعمل بالفقه التزاما بالسنة ، وهاته من أجل حسنات الصحوة الإسلامية منذ الفجر الجديد الذي لم يظهر بعد نهاره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق